سورة الكهف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


هي مكية كلها إلا في قوله. وعن ابن عباس وقتادة إلاّ قوله {واصبر نفسك} الآية فمدنية. وقال مقاتل: إلاّ من أولها إلى {جرزاً} ومن قوله {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآيتين فمدني. وسبب نزولها أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصِفالهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت: سلوه فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه، وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألوه فقال: «غداً أخبركم» ولم يقل إن شاء الله، فاستمسك الوحي خمسة عشر يوماً فأرجف كفار قريش، وقالوا: إن محمداً قد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن. وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه، فلما انقضى الأمد جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها.
وروي في هذا السبب أن اليهود قالت: إن أجابكم عن الثلاثة فليس بنبيّ، وإن أجاب عن اثنتين وأمسك عن الأخرى فهو نبيّ. فأنزل الله سورة أهل الكهف وأنزل بعد ذلك {ويسألونك عن الروح} ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما قال {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} وذكر المؤمنين به أهل العلم وأنه يزيدهم خشوعاً، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولداً، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولداً، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن. ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله {وكبره تكبيراً} إلى الغيبة في قوله {على عبده} لما في {عبده} من الإضافة المقتضية تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
{والكتاب} القرآن، والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر {عوجاً} ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي، والمعنى أنه في غاية الإستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه، لا حوشية ولا عيّ في تراكيبه ومبانيه. و{قيماً} تأكيد لإثبات الإستقامة إن كان مدلوله مستقيماً وهو قول ابن عباس والضحاك. وقيل: {قيماً} بمصالح العباد وشرائع دينهم وأمور معاشهم ومعادهم. وقيل: {قيماً} على سائر الكتب بتصديقها. واختلفوا في هذه الجملة المنفية، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على {أنزل} فهي داخلة في الصلة، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب {قيماً} أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من {الكتاب} لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقدره جعله {قيماً}.
وقال ابن عطية: {قيماً} نصب على الحال من {الكتاب} فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ، أي أنزل الكتاب {قيماً} واعترض بين الحال وذي الحال قوله {ولم يجعل له عوجاً} ذكره الطبري عن ابن عباس، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله {قيماً}. أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها.
وقال العسكري: في الآية تقديم وتأخير كأنه قال: احمدوا الله على إنزال القرآن {قيماً} لا عوج فيه، ومن عادة البلغاء أن يقدّموا الأهم. وقال أبو عبد الله الرازي: {ولم يجعل له عوجاً} يدل على كونه مكملاً في ذاته. وقوله قيماً يدل على كونه مكملاً بغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله، وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه. وقال الكرماني: إذ جعلته حالاً وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير، والصحيح أنهما حالان من {الكتاب} الأولى جملة والثانية مفرد انتهى. وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى. واختاره الأصبهاني وقال: هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له {عوجاً قيماً} وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قوله قيماً بدلاً من قوله {ولم يجعل له عوجاً} أي جعله مستقيماً {قيماً} انتهى. ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف. وقيل: {قيماً} حال من الهاء المجرورة في {ولم يجعل له} مؤكدة. وقيل: منتقلة، والظاهر أن الضمير في {له} عائد على {الكتاب} وعليه التخاريج الإعرابية السابقة. وزعم قوم أن الضمير في {له} عائد على {عبده} والتقدير {على عبده} وجعله {قيماً}. وحفص يسكت على قوله {عوجاً} سكتة خفيفة ثم يقول {قيماً}. وفي بعض مصاحف الصحابة {ولم يجعل له عوجاً} لكن جعله قيماً ويحمل ذلك على تفسير المعنى لا أنها قراءة.
وأنذر يتعدى لمفعولين قال {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} وحذف هنا المفعول الأول وصرح بالمنذر به لأنه هو الغرض المسوق إليه فاقتصر عليه، ثم صرح بالمنذر في قوله حين كرر الإنذار فقال: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} فحذف المنذر أولاً لدلالة الثاني عليه، وحذف المنذر به لدلالة الأول عليه، وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة، ولما لم يكرر البشارة أتى بالمبشر والمبشر به، والظاهر أن {لينذر} متعلقة بأنزل. وقال الحوفي: تتعلق بقيماً، ومفعول لينذر المحذوف قدره ابن عطية {لينذر} العالم، وأبو البقاء {لينذر} العباد أو لينذركم. والزمخشري قدره خاصاً قال: وأصله {لينذر} الذين كفروا {بأساً شديداً}، والبأس من قوله {بعذاب بئيس} وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبأسة انتهى.
وكأنه راعي في تعيين المحذوف مقابله وهو {ويبشر المؤمنين الذين} والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا.
ومعنى من {لدنه} صادر من عنده. وقرأ أبو بكر بسكون الدال وإشمامها الضم وكسر النون، وتقدّم الكلام عليها في أول هود. وقرئ {ويبشر} بالرفع والجمهور بالنصب عطفاً على {لينذر} والأجر الحسن الجنة، ولما كنى عن الجنة بقوله {أجراً حسناً} قال: {ماكثين فيه} أي مقيمين فيه، فجعله ظرفاً لإقامتهم، ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال {أبداً} وهو ظرف دال على زمن غير متناه، وانتصب {ماكثين} على الحال وذو الحال هو الضمير في {لهم} والذين نسبوا الولد إلى الله تعالى بعض اليهود في عزير، وبعض النصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة، والضمير في {به} الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادّعوه. قال المهدوي: فتكون الجملة صفة للولد. قال ابن عطية: وهذا معترض لأنه لا يصفه إلاّ القائل وهم ليس قصدهم أن يصفوه، والصواب عندي أنه نفى مؤتنف أخبر الله تعالى به بجهلهم في ذلك، ولا موضع للجملة من الإعراب ويحتمل أن يعود على الله تعالى، وهذا التأويل أذم لهم وأقضى في الجهل التام عليهم وهو قول الطبري انتهى.
قيل: والمعنى {ما لهم} بالله {من علم} فينزهوه عما لا يجوز عليه، ويحتمل أن يعود على القول المفهوم من {قالوا} أي {ما لهم}.
بقولهم هذا {من علم} فالجملة في موضع الحال أي {قالوا} جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر في ما يجوز ويمتنع. وقيل: يعود على الاتخاذ المفهوم من {اتخذه} أي {ما لهم} بحكمة الاتخاذ من علم إذ لا يتخذه إلاّ من هو عاجز مقهور يحتاج إلى معين يشد به عضده. وهذا مستحيل على الله.
قال الزمخشري: اتخاذ الله ولداً في نفسه محال، فيكف {قيل ما لهم به من علم}؟ قلت: معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به انتهى.
{ولا لآبائهم} معطوف على {لهم} وهم من تقدم من أسلافهم الذين ذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، بل من قال ذلك إنما قاله عن جهل وتقليد. وذكر الآباء لأن تلك المقالة قد أخذوها عنهم وتلقفوها منهم.
وقرأ الجمهور: {كلمة} بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز، وفاعل {كَبُرت} مضمر يعود على المقالة المفهومة من قوله {قالوا اتخذ الله ولداً}، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة، والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم، فإن كثيراً مما يوسوس به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر، فكيف بمثل هذا المنكر وسميت {كلمة} كما يسمون القصيدة كلمة.
وقال ابن عطية: وهذه المقالة هي قائمة في النفس معنى واحداً فيحسن أن تسمى {كلمة} وقال أيضاً: وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلاً زيد، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم: نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى {وساءت مرتفقاً}. وقالت فرقة: نصبها على الحال أي {كبرت} فريتهم ونحو هذا انتهى. فعلى قوله كما تقول نعم رجلاً زيد يكون المخصوص بالذم محذوفاً لأنه جعل {تخرج} صفة لكلمة، والتقدير {كبرت كلمة} خارجة {من أفواههم} تلك المقالة التي فاهوا بها وهي مقالتهم {اتخذ الله ولداً}. والضمير في {كبرت} ليس عائداً على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده، وهو التمييز على مذهب البصريين، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً وتخرج صفة له أي {كبرت كلمة} كلمة {تخرج من أفواههم}. وقال أبو عبيدة: نصب على التعجب أي أكبر بها {كلمة} أي من {كلمة}. وقرئ {كبرت} بسكون الباء وهي في لغة تميم. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ في المعنى وأقوى، و{أن} نافية أي ما {يقولون} و{كذباً} نعت لمصدر محذوف أي قولاً {كذباً}.
{فلعلك باخع} لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور. وقال العسكري: فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك. وقيل: وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت {باخع نفسك}؟ وقال ابن عطية: تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك. وقال الزمخشري: شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم انتهى. وتكون لعل للإستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لكونهم لم يؤمنوا.
وقوله {على آثارهم} استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم، ومعنى {على آثارهم} من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر. ويقال: مات فلان على أثر فلان أي بعده، وقرئ {باخع نفسك} بالإضافة. وقرأ الجمهور: {باخع} بالتنوين {نفسك} بالنصب. قال الزمخشري: على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفي شروط العلم فالأصل أن يعمل، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه. وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو. وقرئ: {إن لم يؤمنوا} بكسر الميم وفتحها فمن كسر. فقال الزمخشري: هو يعني اسم الفاعل للإستقبال، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة، أي لأن {لم يؤمنوا} والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن.
قال تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} و{أسفاً} قال مجاهد: جزعاً. وقال قتادة: غضباً وعنه أيضاً حزناً. وقال السدّي: ندماً وتحسراً. وقال الزجاج: الأسف المبالغة في الحزن والغضب. وقال منذر بن سعيد: الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضباً كقوله تعالى {فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا. قال ابن عطية: وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى. وانتصاب {أسفاً} على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال، وارتباط قوله {إنّا جعلنا} الآية بما قبلها هو على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للإبتلاء والاختبار أي الناس {أحسن عملاً} فليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل، بل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملاً ومن هو أسوأ عملاً، فلا تغتم وتحزن على من فضلت عليه بأنه يكون أسوأ عملاً ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم موادّ هذه النعم التي خلقتها.
و {جعلنا} هنا بمعنى خلقنا، والظاهر أن ما يراد بها غير العاقل وأنه يراد به العموم فيما لا يعقل. و{زينة} كل شيء بحسبه. وقيل: لا يدخل في ذلك ما كان فيه إيذاء من حيوان وحجر ونبات لأنه لا زينة فيه، ومن قال بالعموم قال فيه {زينة} من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وقيل: المراد بما هنا خصوص ما لا بعقل. فقيل: الأشجار والأنهار. وقيل: النبات لما فيه من الاختلاف والأزهار. وقيل: الحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال. وقيل: الذهب والفضة والنحاس والرصاص والياقوت والزبرجد والجوهر والمرجان وما يجري مجرى ذلك من نقائس الأحجار.
وقال الزمخشري: {ما على الأرض} يعني ما يصلح أن يكون {زينة لها} ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها. وقالت: فرقة أراد النعيم والملابس والثمار والخضرة والمياه. وقيل: {ما} هنا لمن يعقل، فعن مجاهد هو الرجال وقاله ابن جبير عن ابن عباس وروى عكرمة أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء. وانتصب {زينة} على الحال أو على المفعول من أجله إن كان {جعلنا} بمعنى خلقنا، وأوجدنا، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان.
واللام من {لنبلوهم} تتعلق بجعلنا، والابتلاء الاختبار وهو متأوّل بالنسبة إلى الله تعالى. والضمير في {لنبلوهم} إن كانت ما لمن يعقل فهو عائد عليها على المعنى، وأن لا يعود على ما يفهم من سياق الكلام وهو سكان الأرض المكلفون و{أيهم} يحتمل أن يكون الضمير فيها إعراباً فيكون {أيهم} مبتدأ و{أحسن} خبره.
والجملة في موضع المفعول {لنبلوهم} ويكون قد علق {لنبلوهم} إجراءً لها مجرى العلم لأن الابتلاء والاختبار سبب للعلم، كما علقوا سل وانظر البصرية لأنهما سببان للعلم وإلى أن الجملة استفهامية مبتدأ وخبر ذهب الحوفي، ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي. وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو {أحسن} ويكون {أيهم} في موضع نصب بدلاً من الضمير في {لنبلوهم}، والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس {أحسن عملاً}. وقال الثوري أحسنهم عملاً أزهدهم فيها. وقال أبو عاصم العسقلاني: أََترك لها. وقال الزمخشري: حسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها. وقال أبو بكر غالب بن عطية: أحسن العمل أخذ بحق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه. وقال الكلبي: أحسن طاعة. وقال القاسم بن محمد ما عليها من الأنبياء والعلماء ليبلوَ المرسل إليهم والمقلدين للعلماء أيهم أحسن قبولاً وإجابة. وقال سهل: أحسن توكلاً علينا فيها. وقيل: أصفى قلباً وأحسن سمتاً. وقال ابن إسحاق: أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي.
و {إنّا لجاعلون} أي مصيرون {ما عليها} مما كان زينة لها أو {ما عليها} مما هو أعم من الزينة وغيره {صعيداً} تراباً {جرزاً} الأنبات فيه، وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن ما تضمنته أيدي المترفين من زينتها، إذ مآل ذلك كله إلى الفناء والحاق. وقال الزمخشري: {ما عليها} من هذه الزينة {صعيداً جرزاً} يعني مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإماطة حسنة وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ونحو ذلك انتهى. قيل: والصعيد ما تصاعد على وجه الأرض. وقال مجاهد: الأرض التي لا نبات بها. وقال السدّي الأملس المستوي. وقيل: الطريق. وفي الحديث: «إياكم والقعود على الصعدات».


{أم} هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة. قيل: للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال، والهمزة للإستفهام. وزعم بعض النحويين أن {أم} هنا بمعنى الهمزة فقط، والظاهر في {أم حسبت} أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. فقال مجاهد: لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك. وقال قتادة: لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السموات والأرض أكثر. وقال ابن عباس: سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك. وقال الطبري: تقرير له عليه السلام على حسبانه {أن أصحاب الكهف} كانوا {عجباً} بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم. قال: وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. وقال الزهراوي: يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاماً له هل علم {أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا عجباً} بمعنى إثبات أنهم عجب، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته، فيقال له وصفهم عند ذلك والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت انتهى. وقال غيره: معناه أعلمت أي لم تعلمه حتى أعلمتك.
وقال الزمخشري: ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها، وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ثم قال: {أم حسبت} يعني {أن} ذلك من قصة أهل الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة انتهى. وقيل: أي أم علمت أي فاعلم أنهم {كانوا} {عجباً} كما تقول: أعلمت أن فلاناً فعل كذا أي قد فعل فاعلمه. وقيل: الخطاب للسامع، والمراد المشركون أي قل لهم {أم حسبتم} الآية. والظن قد يقام مقام العلم، فكذلك حسبت بمعنى علمت والكهف تقدم تفسيره في المفردات. وعن أنس: الكهف الجبل. قال القاضي: وهذا غير مشهور في اللغة. وقال مجاهد: تفريج بين الجبلين، والظاهر {أن أصحاب الكهف والرقيم} هم الفتية المذكورون هنا. وعن ابن المسيب أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف. فقال الضحاك {الرقيم} بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً أموات كلهم نيام على هيئة {أصحاب الكهف}. وقيل: هم أصحاب الغار ففي الحديث عن النعمان بن بشير أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم قال: «إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف» وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبارّ والديه، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح. ومن قال إنهم طائفتان قال: أخبر الله عن {أصحاب الكهف} ولم يخبر عن أصحاب {الرقيم} بشيء، ومن قال: بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح {الرقيم} فعن ابن عباس: إنه لا يدري ما {الرقيم} أكتاب أم بنيان، وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين المسيح عليه السلام.
وقيل: من دين قبل عيسى، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم. وقيل: لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام. وقيل: كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وسبب خروجهم. وقيل: لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف. وقيل: صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة. وقيل: اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي وابن جبير، وعن الحسن: الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية. وقيل: اسم للوادي الذي فيه الكهف. وقيل: رقم الناس حديثهم نقراً في الجبل.
و {عجباً} نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله، وتقديره آية {عجباً}، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط، والسند في معرفتها ضعيف والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلاّ ما قص تعالى علينا من قصصهم، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير. ورُوي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقيانوس. وروي أنهم كانوا في الروم. وقيل: في الشام وأن بالشام كهفاً فيه موتى، ويزعم مجاوروه أنهم {أصحاب الكهف} وعليهم مسجد وبناء يسمى {الرقيم} ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتي ومعهم كلب رمّة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم {أصحاب الكهف}. قال ابن عطية: دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى {الرقيم} كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس. وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل انتهى. وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم، وأن معهم كلباً ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مراراً لا تحصى، وشاهدت فيها حجارة كباراً، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلاّ بوحي من الله تعالى.
والعامل في {إذ}. قيل: أذكر مضمرة. وقيل {عجباً}، ومعنى {أوى} جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق. وقال الزمخشري: هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء. و{الفتية} جمع فتى جمع تكسير جمع قلة، وكذلك كانوا قليلين. وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير. ولفظ {الفتية} يشعر بأنهم كانوا شباباً وكذا روي أنهم كانوا شباباً من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم، اتبعوا دين عيسى عليه السلام. وقيل: كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم، فيقولون: غزونا الروم، جاءنا الروم. وقل من ينطق بلفظ النصارى، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره، دعوا الله بأن يهيئ لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشداً وهي الاهتداء والديمومة عليه.
وقال الزمخشري: واجعل {أمرنا رشداً} كله كقولك رأيت منك أسداً. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري: وهي ويهيي بياءين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء. وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم: وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً. وقرأ أبو رجاء: رشد بضم الراء وإسكان الشين. وقرأ الجمهور {رشداً} بفتحهما. قال ابن عطية: وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى.
{فضربنا على آذانهم} استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه {ضربت عليهم الذلة} وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتاب المنزل
وقال الأسود بن يعفر:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني *** ضربت على الأرض بالأشداد
وقال آخر:
إن المروءة والسماحة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج
استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلاّ مع تعطل السمع. وفي الحديث: «ذلك رجل بال الشيطان في أذنه» أي استثقل نومه جداً حتى لا يقوم بالليل.
ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً من أن يسمع كما يقال بني على امرأته يريدون بني عليها القبة. وانتصب {سنين} على الظرف والعامل فيه {فضربنا}، و{عدداً} مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد {عدداً} وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض، ووصف به {سنين} أي {سنين} معدودة. والظاهر في قوله {عدداً} الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج أن يعد إلاّ ما كثر لا ما قل.
وقال الزمخشري: ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير قليل عنده كقوله {لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار} انتهى وهذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر:
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسي *** ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا
{ثم بعثناهم} أي أيقظناهم من نومهم، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص وإما عن الأمر المبعوث فيه، وإن كان المبعوث فيه متحركاً و{لنعلم} أي لنظر لهم ما علمناه من أمرهم، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله {لنعلم من يتبع الرسول} وفي التحرير وقرأ الجمهور: {لنعلم} بالنون، وقرأ الزهري بالياء وفي كتاب ابن خالوية ليعلم {أي الحزبين} حكاه الأخفش. وفي الكشاف وقرئ ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أنه مفعول يعلم انتهى. فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، فيكون معناها ومعنى {لنعلم} بالنون سواء، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير ليعلم الله الناس {أي الحزبين}. والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث، وليعلم معلق. وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه. وللكوفيين مذهبان:
أحدهما: أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً.
والثاني: أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه.
والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم} الآية. وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم أولاً مختصرة من قوله {أم حسبت} إلى قوله {أمداً} ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله {نحن نقص}- إلى قوله- {قل الله أعلم بما لبثوا}.
وقال ابن عطية: والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم {الفتية} أي ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين انتهى.
وقالت فرقة: هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف. قال السدّي من اليهود والنصارى الذين علموا قريشاً السؤال عن أهل الكهف، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف. وقال مجاهد: قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون واختلفوا في مدة إقامتهم. وقيل: حزبان من المؤمنين في زمن {أصحاب الكهف} اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء. وقال ابن عباس الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب. وقال ابن بحر: الحزبان الله والخلق كقوله {أأنتم أعلم أم الله} وهذه كلها أقوال مضطربة. وقال ابن قتادة: لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله {الله أعلم بما لبثوا}. وقال مقاتل: كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث.
و {أحصى} جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً، وما مصدرية و{أمداً} مفعول به، وأن يكون أفعل تفضيل و{أمداً} تمييز. واختار الزجّاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً، ورجحوا هذا بأن {أحصى} إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس. ويقول أبو إسحاق: إنه قد كثر من الرباعي فيجوز، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للمال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن. وفهو لما سواها أضيع. قال: وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى. وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي. وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبنى منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبنى منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل. فلا يجوز، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة، وما أظلم هذا الليل. وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، وإذا قلنا بأن {أحصى} اسم للتفضيل جاز أن يكون {أي الحزبين} موصولاً مبنياً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه، وهو كون {أي} مضافة حذف صدر صلتها، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو {أحصى} {لما لبثوا أمداً} من الذين لم يحصوا، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل {أي} موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها، وهو أن يكون حذف صدر صلتها.
وقال: فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، ونحو أعدى من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به، ولأن {أمداً} لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه {أحصى} كما أضمر في قوله:
واضرب منا بالسيوف القوانسا ***
على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون {أحصى} فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى. أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره. والهمزة في {أحصى} ليست للنقل. وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز، و{أمداً} تمييز وهكذا أعربه من زعم أن {أحصى} أفعل للتفضيل، كما تقول: زيداً أقطع الناس سيفاً، وزيد أقطع للهام سيفاً، ولم يعربه مفعولاً به. وأما قوله: وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب {أمداً} بلبثوا. قال ابن عطية: وهذا غير متجه انتهى. وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، وما بمعنى الذي و{أمداً} منتصب على إسقاط الحرف، وتقديره لما {لبثوا} من أمد أي مدة، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ {ما لبثوا} كقوله {ما ننسخ من آية} {ما يفتح الله للناس من رحمة} ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل. وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره فيقول: لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله {أعلم من يضل} من منصوبة بأعلم نصب المفعول به، ولو كثر وجود مثل:
واضرب منا بالسيوف القوانسا ***
لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا، ولما ذكر قوله ليعلم مشعراً باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئاً فشيئاً على رسوله صلى الله عليه وسلم خبرهم {بالحق} أي على وجه الصدق، وجاء لفظ {نحن نقص} موازياً لقوله لنعلم.
ثم قال {آمنوا بربهم} ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده، ولم يأت التركيب {آمنوا} بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون. ثم قال: {وزدناهم هدى} ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة ن من العظمة والجلال، وزيادته تعالى لهم {هدى} هو تيسيرهم للعمل الصالح والإنقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم.
وفي التحرير {زدناهم} ثمرات {هدى} أو يقيناً قولان، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير.
{وربطنا على قلوبهم} ثبتناها وقوّيناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الإنحلال حسن في شدة النفس وقوّة التصميم أن تشبه الربط، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب. وقال تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} والعامل في {أن ربطنا} أي ربطنا حين {قاموا}، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يديّ الملك الكافر دقيانوس، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال: قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد.
وقال الكرماني: {قاموا} على أرجلهم. وقيل: {قاموا} يدعون الناس سرّاً. وقال عطاء {قاموا} عند قيامهم من النوم قالوا وقيل: {قاموا} على إيمانهم. وقال صاحب الغنيان: {إذ قاموا} بين يديّ الملك فتحركت هرة. وقيل: فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا {ربنا رب السموات والأرض} وكان قومهم عباد أصنام، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السموات والأرض المتصرّف فيها على ما يشاء، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول. واللام في {لقد} لام توكيد و{إذا} حرف جواب وجزاء، أي {لقد قلنا} لن ندعو من دونه إلهاً قولاً {شططاً} أي ذا شطط وهو التعدي والجور، فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه، وإما على الوصف به على جهة المبالغة. وقيل: مفعول به بقلنا. وقال قتادة: {شططاً} كذباً. وقال أبو زيد: خطأً.


ولما وحدوا الله تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذباً وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يديّ الملك تقبيحاً لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبرّي من عبادة الأصنام، وأفتّ في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و{هؤلاء} مبتدأ.
و {قومنا} قال الحوفي: خبر و{اتخذوا} في موضع الحال. وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء: {قومنا} عطف بيان و{اتخذوا} في موضع الخبر. والضمير في {من دونه} عائد على الله، ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بيَّن على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم، ومعنى {عليهم} على اتخاذهم آلهة و{اتخذوا} هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها، وأن تكون بمعنى صيروا، وفي ما ذكروه دليل على أن الدّين لا يؤخذ إلاّ بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله.
و {إذ اعتزلتموهم} خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي، وما معطوف على المفعول في {اعتزلتموهم} أي واعتزلتم معبودهم و{إلاّ الله} استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله {وما يعبدون إلاّ الله}.
وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله. وقال هذا أيضاً الفرّاء، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم. وفي مصحف عبد الله {وما يعبدون} من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى. وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم {وما يعبدون} من دون الله وليس ذلك قرآناً لمخالفتها لسواد المصحف، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو {وما يعبدون إلاّ الله}. وقيل: {وما يعبدون إلاّ الله} كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى، فعلى هذا {ما} فيه و{إلاّ} استثناء مفرغ له العامل.
{فأووا إلى الكهف} أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه. وقوله {ينشر} فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا.
قال ابن عباس: {ويهيئ لكم} يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف. وقال ابن الأنباري: المعنى {ويهيئ لكم} بدلاً من أمركم الصعب {مرفقاً}. قال الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على طهيان
أي بدلاً من ماء زمزم. وقال الزمخشري: إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم، وإما أن يخبرهم به نبيّ في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبياً. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقاً لأن جميعاً في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه الزجّاج وثعلب. ونقل مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلاّ كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلاّ بفتح الميم وكسر الفاء، وخالفه أبو حاتم وقال: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد. وقال أبو زيد: هو مصدر كالرفق جاء على مفعل. وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون {مرفقاً} بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7